كتبت_ ندى عرفة
شهدت الثقافة المصرية على مر العصور و الزمن ، تفاعلًا كبيرًا مع ثقافات العالم المختلفة، حيث كانت دائمًا نموذج للإنفتاح على الثقافات الأخرى ، ذلك الأمر الذى إستفادت منه الثقافة المصرية ، حيث أكسبت و إكتسبت من الثقافات الأخرى بشكل ملحوظ و مؤثر و فعال ، وهو دليل على إنفتاح الثقافة المصرية على العالم فى مختلف العصور ، مما ساهم فى إزدهار روافد الأدب و الفنون بأشكالها المختلفة .
يعتبر الأدب العالمى نموذجًا واضحًا فى تكوين شخصية مستقلة للثقافة المصرية ، لذا يسلط “الرسالة العربية” الأضواء على نموذج من أهم نماذج الأدب العالمى التى أثرت فى الثقافة المصرية .
“مئة عامٍ من العزلة” ، رواية للكاتب الكولومبى الكبير ، و الحاصل على نوبل فى الآداب ‘غابرييل غارثيا ماركيز’ .
خرجت تلك الرواية للنور عام 1967 ، لتقلب فن السرد الأدبى رأسًا على عقب ، حيث تُرجمت إلى عشرات اللغات في العالم من بينها اللغة العربية ، و تتكلم عن المنشأ و التطور و الخراب الذي عاشته «ماكوندو» ، تلك القرية المتخيلة التى ظهرت في الثلاث روايات ل’ماركيز’ (1927-2014) ، قد نشرها سابقًا ، و يقوم هيكلها السردى على عمود ملحمة و تاريخ سلالة «بوينديا» الممتد على مدى مئة عام تعبرها ستة أجيال متعاقبة.
يبين ‘ماركيز’ موقفه السياسي و رسالته من أجل السلام و العدالة ، مبينًا كيف وصلنا إلى كل تلك المشاكل التى تعانى منها الإنسانية فى العصر الحالى ، و يعمد الكاتب على توظيف قضايا الواقع مضفيًا عليها جوانب سحرية ؛ من أجل زيادة جرعة التأثير فى قارئه .
و من خلال الواقعية السحرية تمكننا “مئة عام من العزلة” ، من رؤية موضوعية للحياة المادية ، مجسدة بذاتية الخيال ، فتظهر ملامح ما هو غير مألوف فى حالات تماثل الحكايات الخرافية المفعمة بهواجس الحاضر ، فاسحة فى المكان لبيئة سحرية تخفف من البؤس الإجتماعى و الإنسانى ، بطريقة يتطابق السحر فيها مع صلابة الواقع ، و العنف الذى يهيمن على الحياة اليومية .
إستطاع ‘ماركيز’ أن يخلق تاريخ قرية كاملة فى خياله ، منذ أن كانت بدايتها الأولى على يد ‘خوسيه أركاديو بوينديا’ ، و عدد قليل من أصدقائه ، تلك القرية التى أخفى ليلها قصص حب بعضها نجح ، و البعض الآخر كان محكوم عليه بالفشل ، مرورًا بنمو القرية حتى أصبحت أشبه بمدينة صغيرة توالت عليها الحروب و الحكومات ، من أجمل الأفكار التى أراد ‘ماركيز’ إيصالها للقارىء ، و هى أن الزمن لا يسير فى خط مستقيم بل فى دائرة .
يرى القارئ فى بداية القصة ، تكرار الأسماء المتشابهة مثل : ‘أورليانو’ ، ‘أركايدو’ ، و إسم ‘بوينديا’ ، و هو اسم مشترك للأم و الأب (الأجداد الأولين) ، الذين بحثوا عن طريق إلى البحر لمدة تتجاوز العام ، ثم إضطروا للإستقرار فى مكان مناسب ، أطلق عليه ‘خوسيه أركاديو بوينديا’ ، الجد الكبير، اسم قرية “ماكوندو” ، التى سرعان ما إكتشف مكانها الغجر الذين زاروها بالألعاب السحرية و الإكتشافات ، و حتى البساط الطائر و الثلج فى زمن كانت هذه المخترعات غير موجودة.
و مع الزيارة الأولى للغجر ، تبدأ الأحداث فى التطور ، فنتعرف على ‘ميلكيادس’ الذي يبدأ كل شىء و ينتهى به ، و يهرب ‘خوسيه اركاديو’ ابن مؤسس القرية الجد الكبير لعقود طويلة ، و يعود لنشعر بمدى تغير الازمنة ، و يترك أيضًا ‘ميلكيادس الغجرى’، تلك الرقاق التى بها نبوءه ‘ماكوندو’ من بداية تأسيس المدينة ، مرورا بالمآسى و الأحقاد و الحروب الطويلة التى قادها الكولونيل/ ‘أورليانو بوينديا الليبرالى’ ، ابن مؤسس القرية ضد المحافظين ، و الأمطار ، التى استمرت أكثر من أربع سنوات دون إنقطاع فى فترة ‘أورليانو الثانى’ ، و الحياة الطويلة التى عاشتها ‘أورسولا’ الجدة زوجة مؤسس القرية ، و النبوءة التى إستطاع آخر فرد فى الأسرة ، ‘أورليانو الصغير’ ، أن يفك شفرة الأبيات الشعرية ، و يفهم فى اللحظة الآخيرة قبل هبوب الرياح المشؤومة ،و التى قضت على آخر السلالة و القرية كلها .
كان ‘ماركيز’ يرفض تحويل هذا العمل تحديدًا إلى عمل فنى ، إلا أن منصة “نتفليكس” العالمية ربما تكون قد أغرت ورثته للموافقة على تحويله ، حيث قال الورثة في بيان لهما نشره موقع “فارايتى ، : ” إنه “مع تقدم مستوى الإنتاج خصوصًا فى منصة “نيتفليكس” و إتساع آليات و إمكانات التصوير ، لا مانع عندهما من تحويل الرواية إلى عمل درامى” .
“مئة عام من العزلة” بدت استثناء في علاقة ‘ماركيز’ مع السينما ، إذ لطالما أبدى مرونة فى تحويل أعماله الروائية والقصصية إلى أفلام سينمائية ، لكنه كان على الدوام يرفض اقتراب السينما من “مئة عام من العزلة” ؛ لقناعته ، وفق ما صرح أبناؤه بأن أحداث الرواية أكبر من أن يتم تقديمها في فيلم سينمائي محدود الزمن ، كما أن إنتاجها بلغة غير الإسبانية لن يكون عادلًا.
لكن مهمة “نتفليكس” رغم ما تمتلكه من فريق عمل متميز وإمكانيات كبيرة و انتشار واسع ، لن تكون سهلة ، ف”مئة عام من العزلة” تكاد تكون الأشهر و الأهم بين روايات ‘ماركيز’ ، وقد بيع منها ما يقدر بنحو 47 مليون نسخة مترجمة إلى 46 لغة ، و بالتالى فإن عشاقها المنتشرين فى أنحاء العالم ، و حساسيتهم العالية تجاه الرواية وكل كلمة فيها ، سيشكل ثقلًا على أى سيناريو يقوم بمعالجتها دراميًا، ولا سيما أنه قلما نجحت الأفلام التي قدمت عن أصول روائية ل’ماركيز’ فى الإرتقاء بمادته الأدبية و مسايرة ثراء لغته و عوالمها .